العلوم الاسلامية والعربية في العصرالعباسي
التأليـف:
بدأت حركة التأليف في العلوم العربية والإِسلامية قبل العصر العباسي، لكنها بلغت القمة في هذا العصر، وكثر تراثنا الإِسلامي إنما هو من معطيات العصر العباسي أو عالة عليه، علما بأن ما فقد من تراث العباسيين أضعاف أضعاف ما بقي لنا، ويكفي أن نشير إلى أن التتار عندما استولوا على بغداد ألقوا بالكتب في نهر دجلة حتى تغير لون مائه من أثر الحبر الذي كتبت به الكتب.
ولا نستطيع أن نتحدث بالتفصيل عن نشأة كل علم من العلوم الإسلامية وتطوره وأشهر رجاله وكتبه؛ لأن ذلك يحتاج إلى إطالة وتفصيل، ولكننا سنورد لمحات مختصرة جدًا عن بعض العلوم.
1- التفسـير:
قام علم التفسير في بداية التأليف على روايات تروي عن النبي الله عليه وسلم وعن الصحابة رضي الله عنهم وعن التابعين في معنى آية أو سبب نزولها وفي العصر العباسي وجدت طبقة من العلماء الذين ألفوا في التفسير، أشهرهم الإِمام ابن جرير الطبري رحمه الله صاحب التفسير المشهور (جامع البيان)، وقد حرص فيه على جمع الأحاديث وأقوال الصحابة والتابعين في تفسير القرآن، وكذلك الاستشهاد بالشعر العربي، وبيان وجوه القراءات، والإِعراب.
ثم جاء بعده مجموعة من المفسرين، منهم الثعلبي، والواحدي، ثم الزمخشري صاحب (الكشاف).
وقد برز بين المفسرين من يميل إلى التفسير بالمأثور المروي عن السلف، ومن يميل إلى التفسير بالرأي والعقل فيما لم يرد فيه نص صحيح صريح، فكانت مدرسة التفسير بالمنقول، ومدرسة التفسير بالمعقول.
2- الحديث والفقـه:
من عناية أبي جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني رحمه الله بالعلم والتأليف فيه أنه طلب من الإِمام مالك رحمه الله أن يؤلف للناس كتاباً يوطئه لهم، فقام الإِمام مالك بتأليف (الموطأ) في الحديث.
وأشهر كتب الحديث وأصحها صحيح الإِمام البخاري رحمه الله (الجامع الصحيح)، ويليه صحيح الإِمام مسلم، ثم مسند الإِمام أحمد بن حنبل، وكتب الصحاح الأخرى للترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه رحمهم الله أجمعن.
كما وجد في هذا العصر كثير من العلوم المتعلقة بالحديث الشريف كمصطلح الحديث، والجرح والتعديل.
وفي هذا العصر وجدت المذاهب الأربعة، وهي: المذهب الحنفي، والمذهب المالكي، والمذهب الشافعي، والمذهب الحنبلي. وحول كل مذهب من المذاهب الفقهية ألفت كتب كثيرة لصاحب المذهب أو تلامذته وأتباعه.
3- اللغة والنحـو:
بدأ التأليف في متن اللغة برسائل صغيرة تتناول أموراً محددة كالكلمات المتعلقة بالإِنسان والجمل والفرس والسيف والنخلة، ثم جاء الخليل بن أحمد الفراهيدي فألف أول معجم شامل وهو كتاب (العين)، ثم توالت المعاجم بعد ذلك فألف ابن دريد (جمهرة اللغة)، والأزهري (تهذيب اللغة)، والجوهري (الصحاح)، والصاحب ابن عباد (المحيط)، وابن فارس (المجمل)، والزمخشري (أساس البلاغة).
أما النحو فقد ازدهر في العصر العباسي، ووجدت المدارس النحوية كالمدرسةالبصرية، وأشهر رجالها: أبو عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد، وسيبويه صاحب أعظم كتاب في النحو (الكتاب)، والأخفش.
أما المدرسة الكوفية فأشهر رجالها: معاذ الهراء، والرؤاسي، والكسائي، والفراء.
وقد وجدت بعد ذلك مدرسة تنسب إلى بغداد (المدرسة البغدادية)، وهي مدرسة تقوم على الاختيار والترجيح بين المذهبين: البصري، والكوفي.
4- البلاغة والنقـد:
ألف أبو عبيدة معمر بن المثنى أول كتاب في البلاغة (مجاز القرآن)، ثم جاء الجاحظ فتحدث عن كثير من علوم البلاغة في كتبه وعلى وجه الخصوص (البيان والتبيين)، وألف ابن المعتز كتاب (البديع).
ثم جاء عبد القاهر الجرجاني، فألف أعظم كتابين في البلاغة العربية، وهما (دلائل الإِعجاز)، و(أسرار البلاغة).
أما النقد فقد كان قبل العصر العباسي يعتمد على جمل قصيرة تقال في الاستحسان أو الاستهجان لبيت أو قصيدة أو شاعر، ولم يكن له قواعد وأصول.
وفي العصر العباسي نشطت الحركة النقدية، وتعددت المدارس والاتجاهات، وقامت المعارك الأدبية بين القدماء والمحدثين، ثم بين أنصار أبي تمام وخصومه، ثم جاء المتنبي فألفت حول شعره مدحا وقدحا عشرات الكتب.
ومن أشهر كتب الناقد في هذا العصر: (الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري) للآمدي و(الوساطة بين المتنبي وخصومه) للقاضي الجرجانىِ، و (نقد الشعر) لقدامة بن جعفر، وكتاب (الصناعتين) للعسكري، و (المثل السائر) لابن الأثير.
5- الأدب:
أما الأدب فإن التأليف فيه قد بدأ برسائل صغيرة كأكثر كتب ابن المقفع والأصمعبي وأبي عبيدة، ثم جاء دور الكتب الكبيرة الموسعة، فألف الجاحظ (البيان والتبيين)، وأحمد بن طيفور (المنظوم والمنثور)، والمبرد (الكامل)، وابن قتيبة (الشعر والشعراء) و (أدب الكاتب).
ومن كتب الأدب والتراجم الكبيرة في هذا العصر (الأغاني) لأبى الفرج الأصبهاني، و (يتيمة الدهر) للثعالبي، و (معجم الأدباء) لياقوت الحموي.
6- التاريـخ:
تنوعت المؤلفات في التاريخ في العصر العباسي، فهناك الكتب التي تُعنى بالمغازي والسير (كسيرة ابن اسحاق) وبعدها (سيرة ابن هشام)، وهناك الكتب التي تعنى بالفتوح ككتب الواقدي والمدائني، وهناك كتب الطبقات والرجال (كطبقات ابن سعد)، وهناك كتب الأنساب ككتب ابن الكلبي، وهناك الكتب التي تعنى بأخبار العرب وأيامهم ككتب الأصمعي وأبي عبيدة.
ومن أشهر الكتب التاريخية التي ألفت في هذا العصر (تاريخ الرسل والملوك) لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري، و (تاريخ اليعقوبي)، و (تجارب الأمم) لمسكويه، و (تاريخ بغداد) للخطيب البغدادي، و (مروج الذهب) و (التنبيه والإِشراف) وكلاهما للمسعودي، و (الكامل في التاريخ) لابن الأثير.
7- تقويم البلدان (الجغرافيا):
عُني المسلمون في العصر العباسي بتقويم البلدان ومعرفة الطرق والمسالك ووصف الأرض، وألفوا في ذلك كتباً كثيرة، منها: كتاب (المسالك والممالك) لابن خرداذبة، و(مسالك الممالك) للإصطخري، و (أحسن التقاسيم) للمقدسي، و (نزهة المشتاق) للشريف الإدريسي، و (معجم البلدان) لياقوت الحموي.
كما كثرت كتب الرحلات ووصف طرق الحج.
الترجمـة
نشطت الترجمة في العصر العباسي نتيجة لاختلاط الشعوب الإِسلامية والتقدم العلمي والحاجة إلى الاطلاع على ما عند الأمم الأخرى من علوم وفنون.
وأشهر من شجع الترجمة من الخلفاء العباسين أبو جعفر المنصور الذي كان عالماً محباً للعلماء، فترجمت في عهده كتب كثيرة في الطب والكيمياء والرياضيات والفلك.
وفي عهد الخليفة المأمون بلغت حركة الترجمة ذروتها، فقد أنشأ داراً خاصة للترجمة صرف عليها الأموال الكثيرة، حتى إنه كان يعطي على الكتاب المترجم وزنه ذهباً. وقد عرفت في التاريخ باسم "بيت الحكمة"، وفيها نشأت طبقة من كبار المترجمين الذين نقلوا إلى العربية ذخائر اليونان والفرس والهنود.
ومن عناية المأمون بالترجمة أنه أرسل الوفود إلى القسطنطينية ليختاروا من كتب اليونان كل نافع مفيد لتتم ترجته، وقد شجع الوزراء المترجين أيضاً كما هو شأن البرامكة الذين شجعوا على نقل الثقافة الفارسية ثقافة أجدادهم.
وقد شملت الترجمة من الفارسية الكتب العلمية والأدبية، أما الترجمة من اليونانية فكانت مقصورة على كتب العلوم من طب وطبيعة وحيوان، وكذلك على كتب المنطق والفلسفة.
ولم يترجم العرب الأدب اليوناني، ولذلك أسباب منها أن الأدب اليوناني أدب وثني، يقوم على تعدد الآلهة كما يزعمون.
وقد كان لترجمة بعض كتب المنطق والفلسفة آثار سلبية على الفكر الإِسلامي.
وقد قامت إلى جانب الترجمة حركة لتعريب المصطلحات، وكان لذلك أثر طيب في إثراء اللغة العربية بالمصطلحات العلمية.
ومن أوائل المترجمين عبد الله بن المقفع، ومن أشهرهم أولاد موسى بن شاكر، ومحمد بن موسى الخوارزمي، وأبو يوسف يعقوب الكندي، وثابت بن قرة، ومحمد ابن إبراهيم الفزاري